انهمرت الدموع من عينها في عيد مولدها التاسع عشر وانتابها شعوراً بالاشمئزاز وهي تضع يدها على خدها ، نظرت إليها صديقتها نظرة حانية وهي تسألها في تعجب عن سر هذه الدموع التي ترافق احتفالهم بعيد ميلادها السنوي ، نظرت إليها بحزن دفين قبل أن تنطلق مهرولة إلى الشرفة وتضع يدها على سياجها الحديدي ، تنظر إلى الأفق البعيد ، تتهاوى على المقعد الذي وجدته هناك ، تشعر بوجود صديقتها بقربها عندما لامست يدها كتفها ، تفقد مقاومتها وتنفجر في بكاءٍ مرير ، وهي تضع رأسها على صدر صديقتها ، تروي لها سر تلك القبلة التي لن تنساها طوال حياتها .
شرعت في الحديث بصوت متهدج .. لقد كنت طفلة صغيرة لم أتجاوزِ الأربع سنوات وأنا أحتفل بمولدي في الحديقة التي لطالما تمنيت دخولها ، وقتها لم أدركِ بعد من حياتي سوى اللعب كان ضجيج ضحكاتي يملئ أركان حديقة الحيوان ، لم يسلم أحد من مشاكساتي في ذلك اليوم فهذه اللحظات كنت أتمناها كلما مررت بأسوارها من الخارج ، لم أكن أعي بعد أن هذه الحديقة التي تعد أكبر حديقة بفلسطين قد بنيت في القدس خصيصاً لليهود وأن الفلسطينيين أمثالي محرمٌ عليهم دخولها إلى بشق الأنفس ، كنتُ طفلةً يكسوها الدلال ويغلب عليها روحُ الدعابة ، أمرح وألعب هنا وهناك ، صوت ضحكاتي وبكائي يظهر براءتي المفرطة ، كنت كالزئبق يصعب على والدتي أن تبقيني بين ذراعيها إلا أنها لفرط محبتها لي كانت ترافقني كظلي في كل خطوة أخطوها .
لم يكن يستهويني من الحيوانات سوى الأسود فكنت أتشوق لرؤيتهم ولم أحفل مثل أقراني بالقردة والفيلة ، لم أكن في تلك الأيام أعرف سر هذا التعلق ، مثلما أعرفه الآن .
كان منظر اللبوة وهي ترضع صغارها ملفتاً استدعى وقوفي مع إخوتي الأكبر مني لكني سرعان ما انصرفت عنها عندما رأيت الأسد في الجانب الآخر .
لم يقف حائلاً بيني وبينه تلك الجموع من اليهود الذين أحاطوا بالنافذة الزجاجية المطلة على قفصه وتسللت وسط انشغال أهلي باللبوة متخللة بينهم حتى صعدت إلى حافة النافذة الزجاجية ، كان المنظر فضيعاً تلاشت معه فرحتي بالوصول وكادت أن تسقط من عيني دمعة ، تناسيت في لحظتها أنني أضع يدي على الزجاج ، أمعنت النظر إليه بخوف ، وهو يأكل لحم ذلك الغزال الصغير بشراهة فظيعة ، لم أتمالك نفسي وتعالت صرخاتي وانهمرت دموعي كشلال يتخلل واحة خضراء وأنا أرى الأسد يقترب مني ويلعق زجاج النافذة الذي أضع يدي عليها ، متصورة أنه سيلتهمني كما التهم الغزال الصغير ، لم أتردد وتراجعت بقوة للخلف لأسقط بين الأرجل اليهودية .
في تلك اللحظات شعرت بأيدي رجل غريب يحملني وهو يضحك كان الموقف أعظم من أن ألق بالاً لتلك الكلمات الغريبة التي سمعتها منه ولم أفهمها ، لم يوقف ارتجاف أطرافي تلك القبلة التي طبعها على خدي ولم أشعر بأني هربت من وحش حقيقي يأسره الزجاج إلى أحضان شيطان مخيف من يهود الـ ( سكناج ) حتى أن يدي الصغيرة امتدت وهي ترتجف لتأخذ منه قطعة الحلوى الشهية وتضعها في فمي .
تلك اللحظات المرعبة تناسيتها عندما شعرت بالدفء والحنان بين ذراعي أمي الحبيبة التي شدتني من يده وضمتني لصدرها والخوف يشع من عينيها ، تلاشت مخاوفها بعد أن تفقدت كل أعضائي واطمأنت على سلامتي وشرعت في الضحك من شقاوتي دون أن تحفل بشكر ذلك الرجل الذي أوصلني إليها ، كان أبي أيضاً يضحك وهو يشكره على موقفه النبيل .
لم أستطع في حينها ، ربما لصغر سني ، ترجمة ذلك الموقف رغم ما يتنامى لسمعي من المحيطين بي عن قسوة ووحشية هؤلاء القوم الذين احتلوا أراضينا وهجروا أهلينا وقتلوا شبابنا وشيوخنا وحتى الأطفال أمثالي ، كانت هذه الحيرة تكبر معي وأنا أسمع في كل يوم عن المجازر التي يرتكبونها بحق أبناء شعبي ، لم أشعر في سنيين عمري حتى في تلك اللحظات التي رفعني بين ذراعيه وهو يداعبني أن موقفه إنسانياً ، لكنني بالتأكيد قد تيقنت اليوم عندما كبرت أن ذاك المسخ المخيف كان شيطاناً مقنعاً بقناع الرحمة والحنان .
لذلك كان عيد ميلادي ذكرى أليمة تستدعي انهمار دموعي كلما تحسست وجنتي وتذكرت أن شفاه أحد هؤلاء اليهود الأنجاس الذين أمقتهم قد لامست وجهي الفلسطيني .
تسرع صديقتها في ضمها لصدرها مرة أخرى وقد اختلطت دموعهما وهي تطلب منها نسيان هذا الموقف وأن تتذكر فقط أن الأرض الفلسطينية ستتحرر يوماً ما وسيطرد منها أحفاد القردة والخنازير بإذن الله وقتها لن تتجرع أي طفلة فلسطينية ذل مثل هذه القبلات .
ملاحظة ( هذه القصة مستوحاة من المذكرات الشخصية للكاتبة المبدعة والفنانة التشكيلية الفلسطينية مرام عياد ) .