من أسرار القرآن
"وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين"بقلم: د. زغلول النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في نهاية الخمس عشرة الأول من سورة
النمل, وهي سورة مكية, وآياتها ثلاث
وتسعون(93) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود
الإشارة فيها إلي وادي النمل الذي مر به نبي الله سليمان وجنوده,
ونطقت نملة بلغتها الخاصة آمرة بقية أفراد مستعمرتها من النمل
بالدخول إلي مساكنهم محذرة إياهم من إمكان أن تطأهم أقدام سليمان وجنوده
أو حوافر خيلهم فيحطموهم وهم لا يشعرون.
ويدور المحور الرئيسي لسورة النمل حول قضية العقيدة الإسلامية شأنها في
ذلك شأن كل السور المكية, وإن تميزت سورة النمل كما تميزت
السورة: السابقة عليها( سورة الشعراء),
واللاحقة بها( سورة القصص) باستعراض قصص عدد من الأمم
الهالكة, وذلك من أجل استخلاص الدروس والعبر المستفادة
منها, ومقارنة مواقف أبناء تلك الأمم البائدة بمواقف أمثالهم من
الكفار والمشركين في مواجهة الرسالة الخاتمة في زمن الوحي الي زماننا
الراهن وحتي تقوم الساعة.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة النمل وما جاء فيها من ركائز
العقيدة, والتشريعات الإسلامية, والإشارات
الكونية, ونركز هنا علي ومضتي الإعجاز التاريخي والتربوي
والعلمي في عرض لمحات من سيرة نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ في الآية
القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, وفي غيرها
من آيات الكتاب المجيد.
من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في الآية الكريمة
في الأثر أن نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ عاش في أوائل الألفية
الأخيرة قبل الميلاد, وأنه حكم جزءا من أرض فلسطين في حدود
السنوات(970 ـ933 ق.م) والقرآن
الكريم نزل في الفترة من(610 م) الي(633
م), وعلي ذلك فإن الفارق الزمني بين موت نبي الله سليمان وتنزل
القرآن المجيد يزيد علي ألف وخمسمائة سنة, ومن هنا فإن استعراض
القرآن الكريم لعدد من المواقف من سيرة هذا النبي الكريم لأجل استخلاص
الدروس والعبر منها يأتي وجها من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي في كتاب
الله, كما نجد سبقا علميا في الإشارة الي أن نبي الله
سليمان, وأباه النبي داود ـ عليهما السلام ـ كانا قد علما منطق
الطير, وذلك لأن معرفة الإنسان بلغة الطيور هو كشف علمي مستحدث
في مجال علم سلوك الحيوان لم يكن يعلم به أحد من أصحاب العلوم المكتسبة
قبل مطلع القرن الميلادي العشرين, وإشارة القرآن الكريم من قبل
ألف وأربعمائة سنة الي أن للطيور لغة يعتبر وجها من أوجه الإعجاز العلمي
في كتاب الله.
وهذه الصور الثلاث من الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في استعراض
القرآن الكريم لعدد من المواقف التي عاشها نبي الله سليمان تتضح بجلاء إذا
ما قورنت بما جاء عن هذا النبي الصالح من أخبار في كتب الأولين التي نزعت
عنه النبوة كما نزعتها عن أبيه, واعتبرتهما مجرد حاكمين ملكيين
علي جزء من أرض فلسطين, وأحاطتهما بكم هائل من الخرافات
والأساطير والسلوكيات المعيبة التي شوهت صورتهما وأساءت الي شخصيتهما
إساءات بالغة.
في المقابل نري كلا من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يذكر نبي
الله سليمان, كما يذكر أباه بما يليق بمقام النبوة والرسالة
الذي كرم الله ـ تعالي ـ كلا منهما به, ورفعه إليه فقد جاء ذكر
نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ في سبعة عشر موضعا من كتاب الله يشرح كل
منها موقفا من المواقف المهمة في سيرة هذا النبي الكريم, ومن
ذلك ما يلي:
1ـ ما يؤكد أن كلا من داود وسليمان من أنبياء الله,
وأنهما من نسل إبراهيم الذي هو من نسل نوح( عليهما
السلام), وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي:ـ
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم علي قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم
عليم* ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن
ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي
المحسنين[ الأنعام:83 ـ84].
ويقول ـ عز من قائل:ـ
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلي نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلي إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسي وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا
داود زبورا[ النساء:163].
2 ـ ومنها ما يمدح عبدالله سليمان بكثرة التوبة والإنابة إلي الله:
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب[ ص:30].
3ـ ومنها ما يؤكد ميراث سليمان لأبيه داود في الملك والنبوة, وليس في المال والممتلكات فقط:
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا علي كثير من
عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير
وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين[ النمل:15
ـ16].
4ـ ومن تلك المواضع القرآنية ما يشير إلي واقعة تفوقت فيها حكمة سليمان علي حكمة أبيه:
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم
شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال
يسبحن والطير وكنا فاعلين[ الأنبياء:78
ـ79].
5ـ ومنها ما يصف حب سليمان للخيل, وابتلاء الله ـ
تعالي ـ له بفتنة المرض, ودعاء هذا العبد الصالح لله الوهاب أن
يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر الله ـ سبحانه وتعالي ـ له كلا من
الريح والجن, والطير, وأسال له عين القطر(
أي النحاس المصهور):
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي
حتي توارت بالحجاب* ردوها علي فطفق مسحا بالسوق
والأعناق* ولقد فتنا سليمان وألقينا علي كرسيه جسدا ثم
أناب* قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك
أنت الوهاب* فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث
أصاب* والشياطين كل بناء وغواص* وآخرين مقرنين في
الأصفاد* هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب* وإن له
عندنا لزلفي وحسن مآب[ ص:31ـ40].
ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلي الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء
عالمين*ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا
لهم حافظين[ الأنبياء:81 ـ82].
وحشر لسيمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتي إذا
أتوا علي وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم
سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب
أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه
وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين[ النمل:17
ـ19].
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من
يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب
السعير* يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب
وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور
[ سبأ:12 ـ13].
6ـ ومنها ما يصف واقعة الهدهد مع نبي الله سليمان ـ عليه السلام:
وتفقد الطير فقال ما لي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين*
لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين* فمكث
غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين* إني
وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم* وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن
السبيل فهم لا يهتدون* ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في
السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون* الله لا إله إلا هو
رب العرش العظيم* قال سننظر أصدقت أم كنت من
الكاذبين* اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا
يرجعون[ النمل:20 ـ28].
7ـ ومنها ما يصف واقعة بلقيس ملكة سبأ مع نبي الله سليمان ـ عليه السلام:ـ
قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم* إنه من سليمان وإنه
بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين* قالت يا
أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتي تشهدون* قالوا
نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين*
قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك
يفعلون* وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع
المرسلون* فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير
مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون* ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود
لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون
[النمل:29 ـ37].
8ـ ومن تلك الآيات القرآنية ما يصف واقعة نقل عرش بلقيس من بلاد
اليمن إلي القدس الشريف عبر طرفة عين بمعجزة خارقة للعادة,
ومحاولة التغيير في بعض ملامحه:
قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين*
قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه
مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر
لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم* قال نكروا لها عرشها ننظر
أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون[ النمل:38
ـ41].
9ـ ومنها ما يصف وصول بلقيس ملكة سبأ إلي قصر سليمان بالقدس وإعلانها قبول الإسلام دينا معه:
فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا
مسلمين*وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم
كافرين* قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن
ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع
سليمان لله رب العالمين
[النمل:42 ـ44].
10 ـ ومنها ما وصف به نبي الله سليمان بأنه لم يكن
نبيا, ولكن كان ساحرا يستعين بالسحر ويستمد العون من
السحرة:
واتبعوا ما تتلو الشياطين علي ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل علي الملكين ببابل هاروت وماروت وما
يعلمان من أحد حتي يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون
به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما
يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما
شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون* ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة
من عند الله خير لو كانوا يعلمون
[ البقرة:102 ـ103].
11 ـ ومنها ما يصف وفاة هذا النبي الصالح سليمان بن داود ـ عليهما السلام:ـ
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم علي موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما
خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب
المهين[ سبأ:14].
ومعظم هذه الوقائع لم يرد عنها شيء في كتب الأولين مما يجعل كل واحدة منها
معجزة تاريخية حقيقية بذاتها, تصحح التشويه الذي ساد ذكر نبي
الله سليمان في تلك الكتب التي ملئت صفحات عديدة منها بأساطير نزعت عنه
النبوة, وقصرت عليه الملك, وهو النبي الصادق الموصول
بالوحي والذي يقول عنه القرآن الكريم: ووهبنا لداود سليمان نعم
العبد إنه أواب[ ص:30].
ويقول: وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير
وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين[ النمل:16].
وهنا يتضح الفارق بين بيان الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ وروايات
المخلوقين, فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله
علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأيام ـ صلي الله
وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
منقووول