قليل من الرأفة .. ؟؟
رأيتها من بعيد، وأنا أصارع ندف الثلج الثقيلة بمظلتي البائسة، تقف قريبا من عمود كهرباء، وتبدو جامدة كتمثال نسيه أحدهم على قارعة الطريق. رأيتها... ولا أدري ما لفت نظري في وقفتها غير العادية. عجوز نحيفة تختفي ثلاثة أرباع جسدها في معطف أسود متهدل يكبر مقاسها. الناس يحثون الخطى أمامي وجنبي. يتجاوزونني ويمرون قربها دون أن يلتفتوا إليها. الثلج يواصل تساقطه، والبرد يتسلل من بين الثنايا ويدفع المارة الملتفين في ثياب أنيقة ودافئة إلى الهرولة للهروب من الصقيع الباريسي المبكر هذا العام. وهي لا تتحرك من مكانها. وأنا أقترب منها، وأفغر فمي بذهول وأنا أتعرف عليها.
تسكن قربي. شارعان بعد المفترق القريب. ماذا تفعل وحدها في هذا الجو؟
خطوت نحوها بتردد. هل أحشر نفسي في ما لا يعنيني؟ علمتني سنوات إقامتي في هذه البلاد أن أدير لساني في فمي عشر مرات قبل أن أكلم أحدهم. الفرنسيون لا يحبذون الحديث مع أشخاص لا يعرفونهم.
تأملتها. يداها مدسوستان في المعطف الفضفاض. ساقاها لا تتحركان. ورأسها أيضا. تنظر أمامها، للطرف المقابل من الشارع. شفتاها زرقاوان من البرد. عيناها لا ترفان. والخصلات القليلة التي تغطي رأسها مثقلة بندف الثلج.
لماذا لا ينتبه إليها أحد غيري؟ اقتربت منها وأنا لا أعرف كيف أتصرف. هل أمضي في طريقي؟ هل أمد لها يدي؟
لفتت نظري قطع قماش بيضاء متسخة تبدو أطرافها بين كعبيها وجلد حذائها. اقتربت أكثر، وألقيت تحية مختصرة.
لم تجبني. ارتبكت، وعبثت بمظلتي.
هل حضرتك بخير؟ أنت تسكنين قريبا من هنا، أليس كذلك؟ أنا جارتك...
لا تعرفني. أمر متوقع. لا أحد هنا يعرف أحدا؛ كل يعيش في قوقعته.
حضرتك بخير؟ أعدت السؤال وأنا أنعت نفسي بالغباء. ما لي وما لها؟
لا، لست بخير. « جاء الجواب مقتضبا. ولم تلتفت إليَّ».
هل أستطيع المساعدة؟
إنهما قدماي، ترفضان أن تتحركا.
لا بأس. سأساعدك. أسندتها بذراعي ولم أستطع أن أفعل شيئا. هي ثقيلة، رغم نحافتها. وبنيتي ضئيلة.
كررت المحاولة دون أن أفلح. ونظرت حولي بيأس. الناس يمرون دون أن يلتفتوا إلينا. تجرأت وناديت رجلا بدا لي قويا: عفوا سيدي. هلا ساعدتني؟ السيدة ليست على ما يرام. منزلها غير بعيد...
برطم الرجل بشيء، ومد يده إلى المظلة التي لا زلت أتعلق بها، وأبعدها، وحمل السيدة، وأمرني أن أريه الطريق. هرولت أمامه، وقطعنا المسافة في خمس دقائق.
تسكن المرأة في الطابق الرابع.
مدت لي المفتاح، وفتحت الباب، ودعتنا لندخل.
قال لها الرجل الذي لم يبد متعبا مما قام به: عليكِ ألا تخرجي في هذا الجو، سيدتي، خصوصا وأنت مريضة...
وماذا أفعل؟ ردت من عمق الكنبة التي وضعها الرجل فيها: لم أتناول شيئا منذ أمس. أحتاج لبعض الخبز.
وضعت يدي أمام أنفي بحرج. رائحة الشقة كريهة. قلبت نظري بفزع في المكان. بقايا أكل قديم، داهمته العفونة. آنية متسخة فوق المنضدة. بقع رطوبة على الجدران. ثياب قذرة ملقاة على الأرض. فوضى، ونفايات.
تحتاجين لمن يرعاك... قلت لها.
أحتاج لبعض الخبز... ردت بعناد، وشعرت بقلبي يتمزق: هل هناك من تريدين أن نتصل به من عائلتك؟
انكمش وجهها الذي غطته التجاعيد: لا. قطعوا صلتهم بي. ليس لدي أحد.
تنهدت. قلت لها إنني سأحضر لها ما تريده من خبز، وبعض الحساء إن شاءت. ولمعت عيناها: حساء؟ لم أذق طعاما ساخنا منذ زمن.
نزلت والرجل. شعرت بعينيه تسترقان النظر إليَّ.
تتصرفين بتهور، هل تعرفين؟ قال أخيرا :ماذا لو ماتت بعد أن تشرب حساءك؟ لست فرنسية، أليس كذلك؟ ستورطين نفسك...
هززت كتفي دون أن أرد عليه.
أي بشر هؤلاء الذين يتركون ذويهم العجزة يحتضرون من الوحدة والجوع والبرد والإهمال؟ من يرأف بهم، ويتذكر أنهم كانوا يوما ما مثلنا، وأننا سنصير، طال الزمن أو قصر، يوما ما مثلهم؟
ذهب الرجل، وانطلقت إلى الغرفة الصغيرة التي أستأجرها في البناية المقابلة؛ أعد الحساء وأسخن الخبز الذي تنتظره جارتي.
•-ذبہحہنہي غہلآكـہ -• ; توقيع العضو |
|